تُمعِن سلطات الاحتلال الإسرائيلي بتنفيذ المخطّط الصهيوني القاضي بالسيطرة على المسجد الأقصى، وهدمه، وإقامة هيكل سليمان المزعوم مكانه، وبتغطية وحماية تجاوزات قطعان المستوطنين باقتحام ساحات المسجد وأداء طقوسهم وشعائرهم التلموذية، في محاولة لتكريس التقسيم الزماني للمسجد، مقدّمة لتكريس التقسيم المكاني على غرار ما جرى في الحرم الإبراهيمي في الخليل...
وتتعدّى قضية المسجد الأقصى المساحة الجغرافية الدينية والبشرية والإنسانية، إلى قضية عربية وإسلامية ومسيحية، ولكل مظلوم في العالم، أو يناضل من أجل الحرية وإحقاق الحق...
وإذا كانت المُدُن لها حدود جغرافية، فإنّ القدس لا حدود جغرافية لها، لأنّها متّصلة بالسماوات العُلى، حيث كانت شاهدة على معراج الرسول الأكرم إليها...
الدخول إلى المدينة المقدّسة أمنية يحلم بتحقيقها كل فلسطيني وعربي ومسلم ومسيحي، لأنّ فيها الكثير من المعالم، وتمتاز عن غيرها من المدن، بأنّها زهرة المدائن، والشاهدة على الرسالات السماوية الإسلامية والمسيحية واليهودية، بما تمثّله من أبعاد دينية وتاريخية وثقافية وسياسية، فهي قلب فلسطين النابض وقبلة المسلمين الأولى وحج المسيحيين إليها...
وخصّها الله سبحانه وتعالى بميزة خاصة، تجلّت بأنّها عنوان وحدة الرسالات السماوية في مواريث أبي الأنبياء إبراهيم (عليه السلام)، وميلاد السيد المسيح (عليه السلام) والشاهدة على مآثر ورسالات الرسل والأنبياء، وصولاً إلى نبي الإسلام محمد (صلى الله عليه وسلم)، حيث كانت المدينة المقدّسة محط إسرائه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى فيها، ومنها المعراج إلى السموات العُلى...
هي أرض المحشر والمنشر، وأرض الرباط، وأحد المساجد التي تُشد الرحال إليها، التي قال فيها النبي محمد (صلى الله عليه وسلم): "لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى"...
الصلاة في المسجد الأقصى لها أضعاف مضاعفة من الثواب والأجر، حيث ذُكِرَ أنّ الصلاة فيه بين مائتين وخمسين صلاة وألف صلاة في ما سواه...
يحمل شهر آب ذكريات أليمة للمسجد الأقصى، وتحديداً تاريخ 21 منه، حيث تعرّض المسجد لمحاولة حرق في العام 1968، ثم الحرق في التاريخ ذاته من العام 1969.
وتسعى سلطات الاحتلال إلى هدم المسجد المبارك وتهويد المدينة المقدّسة، فهي لا تتوانى عن اتخاذ القرارات وتنفيذ الخطوات العملانية لذلك، والسيطرة على مدينة القدس، بما في ذلك مساجدها وكنائسها ومقابرها، ومعالمها التاريخية، ومواصلة هدم المنازل أو مصادرتها، وفرض غرامات باهظة على المقدسيين في محاولة لدفعهم إلى بيع ممتلكاتهم، وإبعادهم أو طردهم من المدينة المقدّسة، وممارسة شتى الوسائل بين اعتقال وفرض إقامة جبرية، ومنع من الدخول إلى المسجد الأقصى أو الاقتراب منه، بعد فشل أساليب الاعتقال والقمع، في وقت تنتشر فيه البؤر الاستيطانية والمستوطنات بشكل غوغائي.
ولا يخفى أنّ الإسرائيليين يعتبرون أنّ هذه المرحلة مؤاتية للسيطرة على المسجد وهدمه وإقامة الهيكل المزعوم، من خلال الحفريات والأنفاق حوله وفي محيطه، والمستمرة منذ سنوات عدّة، وتحويل قنوات المياه التاريخية في سلوان إلى مسارات تلمودية، وتعميق الحفريات والأنفاق وتحويلها إلى شبكة من الأنفاق ومسارات يصل طولها مجتمعة إلى حوالى ألف متر، تبدأ من رأس هضبة سلوان، منطقة عين أم الدرج، وتتّجه شمالاً إلى منطقة العين الفوقا، وانتهاء بمنطقة عين سلوان، بالقرب من مسجد القرية.
وهذه المرحلة المؤاتية لتنفيذ مخطّطهم، في ظل الصمت المطبق على جرائم الاحتلال من خلال ارتكابه المجازر، دون أنْ يكون هناك رادعٌ وعلى مرأى ومسمع العالم أجمع.
استغلال جماعات إرهابية
وفي ظل ما يجري من أحداث في المنطقة العربية والإسلامية، فإنّ ذلك يحقّق المشروع الصهيوني، بتدمير الحضارة العربية والإسلامية، واستغلال بعض الجماعات الإرهابية التي تقتل بإسم الدين - وهو منهم براء - وتدمّر المساجد والمقامات الدينية والمعالم التاريخية ليتّخذ من ذلك ذريعة، بأنّ مَنْ يدّعي الإسلام يقوم بتدمير المساجد والمقامات والكنائس.
وهذه تُحاكي ذات المخطّط الذي نفّذه الاحتلال خلال عدوانه على قطاع غزّة في مثل هذه الأيام من العام 2014، حيث دمّر 271 مسجداً وكنيسة، و10 مقابر إسلامية ومقبرة مسيحية، بهدف أنْ يعتاد العالم على استهداف الأماكن الدينية.
ويرى الحاخامات اليهود أنّ بناء الهيكل المزعوم يتوّج قيام دولة يهودية دينية على أرض فلسطين المحتلة، وهو ما يسعى الصهاينة والاستعمار إلى تكريسه في المنطقة العربية، بعد انتهاء مفعول سايكس - بيكو (الموقعة في العام 1916) - وتجزئة المجزّأ، وإقامة دويلات دينية وعرقية، ما يبرّر قيام الدولة اليهودية.
وتكشف وثائق يهودية عن مخطّط لتدمير المسجد الأقصى ومسجد قبّة الصخرة، وهو ما ظهر في إحدى الصور في مدرسة دينية يهودية يمينية، تم فيها إخفاء المسجدين ووضع مكانهما المعبد الجديد، الذي يقول عنه الحاخامون والمدرّسون اليهود بأنّه هيكل سليمان، دون أنْ يُفصِحوا عن كيفية محوهما وتدميرهما على مَنْ فيهما من المصلين!
ولا يُخفي بعض المتابعين الخشية الصهيونية من الإقدام على تدمير المسجد، لأنّ ذلك يعني الكثير، خاصة إذا تم على أيدي يهود متطرّفين، ما يؤدي إلى وحدة الصف الإسلامي لمواجهة الصهاينة، وبالتالي فإنّ أحد الـ"سيناريوهات" المتداولة أنْ يتم التدمير من خلال جماعات تحمل أسماء إسلامية، والإسلام براء منها، وتقوم بالتدمير تحت عنوان خلافات بين هذه المجموعات، وما اقترفته في سوريا والعراق لا يمكن فصله عمّا يخطّط للمنطقة.
وتشارك في المرابطة في المسجد طالبات "مصاطب العلم"، التي بدئ بها منذ العام 2011، والتي تتوزّع على جميع ساحات المسجد، وتشارك فيها الطالبات بمعدل 20 من مختلف الأعمار، ويشكّلن رأس الحربة في مواجهة "نساء من أجل الهيكل"، وهو تنظيم نسائي يهودي يتصدّر اقتحام ساحات الأقصى مع المتطرّفين اليهود.
ولا تمر استباحة ساحات المسجد الأقصى دون مقاومة من قِبل المرابطين في داخله ومن المقدسيين، فعندما دنّس وزير الدفاع الإسرائيلي أرييل شارون باحات المسجد الأقصى (28 أيلول 2000) كان الرد عليه بانطلاق "انتقاضة الأقصى".
وبعد تكرار استباحة باحات المسجد الأقصى بدعوة من "جماعة الهيكل"، يتقدّمهم وزير الزراعة الإسرائيلي أوري آرئيل، في صيف العام 2015، كان الرد مواجهات أدّت إلى سقوط عدد من الشهداء والجرحى، فضلاً عن المعتقلين، ومن ثم اندلاع "انتفاضة القدس"، التي شكّلت مفاجأة للاحتلال بعدما فشل في قمعها، وأصبحت القنابل البشرية تتنقل من مكان إلى اخر، على الرغم من الإجراءات الأمنية للاحتلال، ويحقّق الشهداء أهدافهم من العمليات بإطلاق النار أو طعناً بالسكين أو دهساً عبر السيارات والحافلات.
دوافع الحرق في 21 آب!
لماذا تم حرق المسجد الأقصى في 21 آب؟
لقد جرت محاولة إحراق المسجد الأقصى بتاريخ 21 آب 1968، وأوكلت المهمة إلى المدعو دنيس روهان، وهو يهودي من أصل أسترالي، لكن تمكّن حرّاس المسجد الأقصى من اكتشاف الجريمة قبل وقوعها، حيث أُلقِيَ القبض على روهان، وحوكم من قِبل سلطات الاحتلال محاكمة صورية، وتقرّر بنتيجتها إبعاده إلى أستراليا، وجرى تنفيذ ذلك.
لكن بتاريخ 21 آب 1969، عاد روهان ثانية إلى القدس ونفّذ جريمته، وهذا يشير إلى أنّ السماح بعودة روهان إلى القدس، يؤكد تواطؤ الاحتلال معه من أجل تنفيذ جريمته.
وقد جرى حرق المسجد في 3 أماكن:
- في مسجد عمر: الواقع في الزاوية الجنوبية الشرقية للمسجد الأقصى، وهو يرمز للمسجد الأوّل الذي بناه الخليفة عمر بن الخطاب، عندما استلم مفاتيح القدس بعد فتحها عام 637.
- في منبر صلاح الدين الأيوبي والمحراب: لحرق ما يرمز إلى النصر الذي حقّقه عندما حرّر القدس من الصليبيين في العام 1187.
- في النافذة العلوية الواقعة في الزاوية الجنوبية الغربية من المسجد: والتي ترتفع حوالى 10 أمتار عن أرضية المسجد، ويصعب الوصول إليها من الداخل دون استعمال سلم طويل، وهو ما لم يكن متوافراً لدى روهان.
وأيضاً تبيّن أنّ الحريـق نُفِّذَ من خارج النافذة وليس من الداخل، وهـو ما يؤكد أنّ هناك مَنْ ساعد روهان في جريمته، تحت إشراف سلطات الاحتلال الإسرائيلي.
وهذا يؤكد أنّ كافة الجرائم المُخطّط لها والمُعدّة مُسبقاً، يتم تنفيذها والادّعاء بأنّ مَنْ نفّذها مُختل عقلياً أو يعاني من اضطرابات نفسية.
ويلاحظ أنّ اختيار هذا التاريخ يعود إلى ادّعاء إسرائيلي بأنّه في العام ذاته - أي - 21 آب من العام 70م، دمّر الهيكل الثاني الذي يزعمون بأنّه كان مُقاماً مكان المسجد الأقصى على أيدي القائد الروماني "تيتس".
المفتي حسين
مفتي القدس الشيخ الدكتور محمد حسين حذّر في تصريح لـ"اللـواء" "من محاولة الاحتلال، تفريغ المسجد الأقصى من روّاده حتى يسهل عليهم تنفيذ ما يخطّطون له من تهويد كامل للمدينة المقدّسة، وهو ما تنفذه الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرّفة، التي اختارت الاستيطان والتوسّع والتهويد على خيار السلام".
وناشد المفتي حسين "العرب والمسلمين التدخّل من أجل التصدّي إلى المخاطر المحدقة بالمسجد الأقصى"، مشيراً إلى أنّه "وضعت الرئيس الفلسطيني محمود عباس بتفاصيل اجتماعي برئيس "لجنة القدس" العاهل المغربي محمد السادس في الرباط، الذي وعد بدعوة اللجنة لانعقاد لاتخاذ قرارات تدعم وتحمي المسجد الأقصى والمدينة المقدّسة".
ما يأمله الفلسطينيون، هو دعم عملاني لصمودهم في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، خاصة في مدينة القدس، وتنفيذ القرارات التي تتخذ في القمم، ومنها "صندوق دعم القدس" الذي لم تدفع من الالتزامات منه إلا الشيء اليسير، فيما هناك صناديق دعم للمستوطنين واليهود المتطرّفين، في وقت تفرض فيه على الفلسطينيين قوانين مجحفة تهدّد مستقبل المدينة المقدّسة.